جماعة الدعوة
>> الاثنين، 17 نوفمبر 2008
حكايتي
(الجزء الأول)
مقدمة
***
إني شابٌ قد اكتوى بنار الفرقة...
وأصابته من تعدد المناهج والمدارس والتيارات الدينية حرقة!
بدأت حكايتي وأنا في الثالثة عشرة من عمري وذلك من خلال جماعة الدعوة والتبليغ والتي تعرفت من خلالها على الله ومعاني الحب والوجد له وفيه. إلا أني سرعان ما تذبذبت ما بين التزام وانتكاس ومزيج من التيه المنهجي والخواء الروحي و الذي أدى بي إلى افتقاد معنى العبودية الحقة واللذة الأكيدة.
ثم أني بلغتُ الثامنة عشرة وكنتُ لازلت متعلقاً بتلك الجماعة حتى التقيت بجماعة ينتسبون لمنهج السلف والذين قد أثاروا مسائل البدع وضرورة طلب العلم على أساس من الكتاب والسنة وفهم السلف الصالح - رحمهم الله ورضي عنهم جميعاً- مما أوقعني في إشكالاتٍ أكثر مما مضى.
فاتبعتُ نصيحة السلفيين في الإلتحاق بأحد المعاهد الشرعية التابعة لجامعة الإمام محمد بن سعود في الرياض وأن أطلب العلم الشرعي النافع وأترك الدراسة التي طالما أحببتُها وأبدعتُ فيها.
وذلك أن المسألة أصبحت بالنسبة لي مسألة حياة أو موت...
مسألة جنة أو نار...
ولكني وللأسف ما ازددتُ إلا اضطراباً وحيرةً وأغلالاً... فانتكستُ مرةً أخرى! ثم أنه مضت السنون...
وأنا متذبذبٌ مفتون...
وقد تركتُ ذلك المعهد المأفون!
فالتحقتُ بجامعة علمية لدراسة التخصص الذي طالما عشقته وحاولت جاهداً أن أتجاوز جراحات المعهد الذي جربته. ولكن تبقى جذوة المحبة لله متقدة في الحشا ولا يزال الشوق إليه يحدوني إلى البحث عنه واستكمال المسير إليه.
فعدتُ إلى الله مرة أخرى وتبت إليه من جديد والتزمت طريقه على منهاج السلفيين، إلا أني لم أستطع أن أحل كثيراً من الإشكالات العقلية ولم أستطع كبح جماح المنازلات الفكرية وكنتُ لازلت أقع في المعاصي والذنوب والسيئات على الرغم من أني قد أقمتُ ليلي، وأخرجتُ صدقتي، وتنسكتُ - فيما أظنه تنسكاً- والتزمتُ أذكار الصباح والمساء، وأسكبتُ الدموع كل يوم.
ومع هذا...
كنتُ لا أزالُ أشعر بالخواء...
ولاأزالُ أفتقدُ لذة العبادة وكمال الخشوع وحقيقة الإحسان...
فأنا لم أكن لأرضى بمنزلةٍ دون الفردوس الأعلى...
ولا برفقةٍ سوى رفقة الحبيب المصطفى - صلوات الله وسلامه عليه-...
ولا بنظرةٍ دون نظرة الرضى من عين الرحمن الرحيم...
و الحليم الكريم...
والعفو الغفور - سبحانه وتعالى-...
فإني والله قد كنتُ أشعر أني لا أنتمي لهذا العالم الأرضي وأسعى للتحليق في العالم العلوي...
بل وقد كنتُ أشعرُ أني كنتُ يوماً هناك وأني إنما حبيسُ جسدٍ ليس بجسدي...
وأسيرُ زمانٍ ليس بزماني...
ومع هذا التطلع والشغف كنتُ لا أزالُ أخلدُ للأرض...
وما أزالُ أتبعُ الهوى...
فجعلتُ أتساءل...
كيف السبيل الى الحق من هذه حاله؟
وهل يرجى لهذا العُبيد شفاؤه؟ أو هكذا اعتقدت! فإني والله كنتُ قد أحببتُ الله ورسوله من كل قلبي ولكني كنتُ لاأزالُ لا أعرف كيف السبيل ولستُ أعلم أين الطريق...
فقد خضتُ رحلة عناء وبحث عن الحق وأيما بحث!
لطالما أردتُ أن أكون عالماً ربانياً حقاً وعارفا ً صدقاً...
لطالما أردتُ أن أكون من أهل الله وأوليائه وخاصته!
كم كنتُ أخشى أن أحرم لقاء الحبيب المصطفى - صلوات الله وسلامه عليه- في الآخرة كما حرمت لقائه في هذه الدنيا!
فأيُ شقاءٍ بعد هذا الشقاء وأي حرمان أعظم من هذا الحرمان؟! هكذا ظننت...
وبذلك اقتنعت! ولكن تبقى التساؤلات وتزداد التناقضات...
فأبحثُ بين المذاهب والمدارس من أهل سنة وأشاعرة ومعتزلة، ثم أنظر الى التشيع من اثني عشرية وجعفرية وزيدية، ثم أبحث في الباطنية من أباضية وصوفية...
أيُهم الاسلام؟
أيُهم الطريق الى الواحد الديان؟
لستُ أدري!
ثم أنظرُ بذهول الى غير المسلمين من نصارى ويهود، بل من بوذية وهندوسية وفلسفات شرقية وغربية وأظل أبحث وأقرأ وأناقش ...
فأجدُ من قد آمن ومن قد ألحد...
وأجدُ من لا يدري و من لا يزالُ يسأل...
وشوق إلى رب لم يعرنِ انتباهه!
لعله أراد أن يضلني لما علم من سوء طويتي...
ولعله فتنني بكثرة ما ألححت عليه بمحبتي...
ولعلني طرقت الباب الذي أضلني...
أو لجأت الى غير الإله الذي أبغي! لستُ أدري! فظللتُ أتساءل...
ما هي مشكلتي؟
كيف لم أوفق الى الهداية رغم طول رحلتي؟
بل كيف لا أجد أجوبةً لأسئلتي؟
أم كيف أني لا أجد جواباً رغم محبتي؟
هل أخطأت الطريق أم أخطأت القصد؟
هل أنا فاسد في ذاتي أم ضال في حقيقتي؟
فتجيبني دموعي وقروحي وسنوات غربتي...
أني أحببتُ إلاهاً لم يحبني...
وعشقتُ رباً خذلني...
وأنا كما أنا...
وحيدأً في رحلتي!
ودُمتم بكل الحب...
حكايتي
(الجزء الثاني)
الأسبابُ التي قادتني للإلحاد
(المحور الثاني- الواقع)
***
المشاهدُ أنك سواء آمنت أن مصدر الرزق هو الإله...
أو الحظ...
أو جهدك الذاتي...
فإنك تقرُ وببداهة أنه لابد لك من السعي لتحصيل الرزق.
فلا المؤمن يتواكل...
ولا غيره يتكاسل...
والكلُ في طلب الرزق متشاغل.
وكذلك...
نجدُ أنك سواء اعتقدت أن سبب شفائك هو صلوات القديس...
أو الإبر الصينية...
أو الإيحاءات الذاتية...
فإنك تقر وبصراحة وجوب التداوي وطلب العلاج.
فلا المؤمن للتعاويذ يركن...
ولا غيره بالدجل يؤمن...
والكلُ يريدُ لصحته أن تتحسن.
فالطالبُ المتدين وغير المتدين على حد سواء، يبذلون الجهد ويقرأون الدرس، ويسألون عن الإختبارات السابقة، ويتملقون المعلمين بعبارات زائفة، والبعضُ للغش يذعن، والبعضُ الآخر يتركُ القلق منه يتمكن.
وفي كل الأحوال...
ما النتيجة في الحقيقة (مع بعض الإستثناءات) إلا صدىً للجهد المبذول والدرس المقروء.
فكلنا يعتقدُ بوجوب الأخذ بالأسباب الواقعية سواء آمنت بأبعاد غيبية أو ميتافيزيقية لهذا الواقع أم لم تؤمن.
ألا وهي (الواقع).
الواقعُ باعتباره تلك المساحة من الحياة والتي تتميزُ بكونها شديدةُ الصرامة، وعظيمةُ الوقع، وحقيقيةُ التفاعل...
كما تستجيبُ له حواسنا ويدركهُ وعينا ويستوعبهُ عقلنا ويشعرُ به جسدنا، بما يستحيلُ معهُ الوهمُ أو الخطأُ.
فعندما تلمسُ النارُ يدك حقيقةً لا مجازاً...
وواقعاً لاافتراضاً...
نجدُ أن المؤمن وغير المؤمن يستجيبان بنفس الطريقة ويعايشان نفس الحقيقة...
ألا وهي الإحساسُ بالألم الناتج عن الإحتراق.
تلك المشاهداتُ الآنفة الذكر...
أثارت عندي جملةً من التساؤلات...
لو كان كلاً من " الإيمان " و " عدم الإيمان " لن " يؤثرا " أو " يغيرا " الواقع...
فلماذا أحتاجُ لأن أؤمن؟
أي وبعبارة أخرى...
إذا كان " المؤمن " في النهاية وفي واقع الأمر سيضطر لأن يقوم بنفس الإجراءات والترتيبات والإعدادات والتي يقوم بها تماماً " غير المؤمن"...
فماالحاجة للإيمان أساساً إذا كان " الإيمان " لا أثر له أو دور في التأثير والتغيير " للواقع " ؟
سيقول أحدهم متسائلاً ...
بل هنالك فرقٌ كبير!
فالمؤمن لا يرجوا " إعجازاً " خارقاً للواقع ولكنه يرجوا ثواباً من الخالق.
كذلك...
فالمؤمن يعلمُ أن هناك " حياة أخروية " و" عوالم علوية " يجبُ عليه أن يعتقد بها ويعمل لها الحساب .
أقولُ لهذا المتسائل ما يلي ...
وإن صح ما تذهبُ إليه فالإشكالُ لا يزالُ حاصلاً!
ألا وهو أن " الإيمان " لا يؤثرُ في " الحياة الدينوية " وإنما محلهُ " الحياةُ الأخروية " ...
وهذه " الحياةُ الأخروية " غير قابلة للإثبات بشكل قطعي ويقيني ( وذلك في حدود علمنا الحالي وما تمخضت عنه بعض نتائج تجارب وخبرات لمحاولة فهم حياة ما بعد الموت ) ...
وبالتالي فأنا لا أستطيعُ أن اعتمدَ على فكرة " الحياة الأخروية " لتسيير " الحياة الدنيوية " والتي في أحسن أحوالها لا تقدم أو تؤخر في قضية " الأخذ بالأسباب " الموضوعية والواقعية لا " الإيمانية أو الغيبية " .
يسألُني آخر ...
طيب...
أليس الإيمانُ يرفع المعنويات ويجعل الناس قادرين على إتيان العجائب وتخطي الصعاب والعراقيل؟
أجيبه بقولي ...
"بلى"!
ولكن أليس هذا الأثر هو أثرٌ " نفسيٌ " بالدرجة الأولى؟
فما الفرقُ بين من " يفجرُ " نفسه بإسم " الإيمان "...
وبين جنود " الكامازاكي " اليابانيين والذين قاموا " بتفجير " أنفسهم من خلال ارتطام طائراتهم - وهم فيها - في أساطيل القوات البحرية الأمريكية إبان الحرب العالمية الثانية وبإسم " الوطن" ؟
في الحالتين هناك " تفجيرٌ " ذاتي للذات ...
في الحالتين هناك " دافعٌ " ذاتي بالسبب أو القضية والتي من أجلها تم التفجير ... وفي كل الأحوال...
فإن الحقيقة هي أن " التفجير " قد حصل بغض النظر عن " الدافع " والذي كان " نفسياً " و " إيحائياً " بالدرجة الأولى ...
فهناك تجربةً طريفةً ومشهورةً في أدبيات " علم النفس الإكلينيكي " والمتعلقة بمفهوم " الإيحاء الذاتي " ...
حيثُ قام مجموعةٌ من الأطباء بتقسيم عينةٍ من المرضى إلى قسمين اثنين بحيث أنهم استمروا في إعطاء القسم الأول نفس الدواء.
في حين أنهم أعطوا القسم الثاني حبة " سكر " تشبه الدواء الأصلي طعماً وشكلاً ولكنها تخلوا من الأثر الكيميائي للدواء الأصلي وذلك بدون أن يعلم المرضى بهذه التجربة...
ثم أنهم تابعوا التقدم في نتائج التحسن والشفاء لكلا القسمين.
فمالذي وجده أولئك الأطباء؟
لقد وجدوا أن هناك تحسناً " متقارباً " بين كلا القسمين...
سواء الذين استمروا على أخذ الدواء الحقيقي أوالذين أخذوا الدواء " السكر"!
عندها استنتج الأطباء أن الإعتقاد الجازم لدى المريض بأن حبة الدواء هذه ستساعد على الشفاء - وإن لم يعلم المريض أنها ليست سوى حبة " سكر " تشبه الحبة الأصلية - سوف تقوم بالفعل بإحداث التغير الكيميائي والعصبي والهرموني المطلوب ( مع التأكيد على أنه هناك استثناءات لهذه الدراسة وكذلك مع الوضع في الإعتبار الأساس الفسيولوجي والبيولوجي لجسم الإنسان وتركيبه العصبي المعقد) .
وهذا ما بات يعرف " بأثرالبالاسيبو" -Placebo Effect للإشارة إلى العامل الذاتي في الإيحاء ...
ثم أجدني أتسائل ومن جديد...
لماذا يحتاجُ من يؤمنُ بأن رزقه مقدر...
وأن سعيهُ لا يقدمُ شيئاً ولا يؤخر...
إلى أن يعمل ويطمع ويطمح تماماً كمن لا يؤمن؟
لماذا لا يكتفي المؤمنُ الذي يعاني من مرض عضال بصلوات راهبه؟
أو بركات قسيسه؟
أو دعوات شيخه؟
أو تعاويذ كاهنه؟
بل لماذا لا يعتمد على الشافي وحده؟
أو يلجأ إلى الكتاب المقدس عنده؟
بل لماذا يبحثُ عن علاجات ودواءات حاله في ذلك كحال غير المؤمن؟
لماذا لا يحفظُ الدرس من ذكر أدعيته المباركة؟
أو تبرك بقساوسته ورهبانه وصلواتهم المقدسة؟
أو مارس التأمل الروحي في جبال التبت الشاهقة؟
بل لماذا يحضرُ الدرس ابتداءً ولا يكتفي بالكشوفات الإلاهية الباهرة؟
أو الرؤى والمنامات الساحرة؟
بل لما يبذلُ الجهد ويواصلُ الكد وقد آمن أن النتيجة قد تقررت في كتاب وأن عين الحق ترعاه؟
لماذا يُقتلُ المؤمنُ وغيرُ المؤمن على حد سواء؟
أم لماذا يُسرقُ المؤمنُ وغيرُ المؤمن على حد سواء؟
بل لماذا يفشلُ المؤمنُ وغيرُ المؤمن على حد سواء؟
إن كان المؤمنُ بالماورائيات وغيرُ المؤمن بها يخضعان لسنن الواقع ويعالجان مرارته...
فما الفرقُ بينهما؟
وما العلاقةُ بين الإيمان من عدمه وبين الواقع إن كان الجميعُ في النهاية له خاضع؟
فإن كنتُ آمنتُ بأن رزقي في السماء...
وأن الأمر قضاء...
فلما الكدحُ؟
فلما العناء؟
وإن كنتُ قد علمتُ أن إيماني يشفيني...
فلما العلاج؟
وإن كنتُ آمنتُ أن معتقدي يحميني...
فلما أبحثُ عن الأمان؟
ودُمتم بكل الحب...
"فرنسيس"
وللمزيد من التواصل فإنه يسعدني أن أستقبل مراسلاتكم على البريد الإليكتروني التالي:
francisbacon@hotmail.com
أيُهم حقيقة الايمان؟ وأنا أقفُ وحيداً بحب لم يتسنَ لي إكماله...وسلكتُ طريقاً أضلني...فالمؤمن وغير المؤمن متفقان على حقيقة واحدة يعايشانها ويعترفان بها...
(الجزء الأول)
مقدمة
***
إني شابٌ قد اكتوى بنار الفرقة...
وأصابته من تعدد المناهج والمدارس والتيارات الدينية حرقة!
بدأت حكايتي وأنا في الثالثة عشرة من عمري وذلك من خلال جماعة الدعوة والتبليغ والتي تعرفت من خلالها على الله ومعاني الحب والوجد له وفيه. إلا أني سرعان ما تذبذبت ما بين التزام وانتكاس ومزيج من التيه المنهجي والخواء الروحي و الذي أدى بي إلى افتقاد معنى العبودية الحقة واللذة الأكيدة.
ثم أني بلغتُ الثامنة عشرة وكنتُ لازلت متعلقاً بتلك الجماعة حتى التقيت بجماعة ينتسبون لمنهج السلف والذين قد أثاروا مسائل البدع وضرورة طلب العلم على أساس من الكتاب والسنة وفهم السلف الصالح - رحمهم الله ورضي عنهم جميعاً- مما أوقعني في إشكالاتٍ أكثر مما مضى.
فاتبعتُ نصيحة السلفيين في الإلتحاق بأحد المعاهد الشرعية التابعة لجامعة الإمام محمد بن سعود في الرياض وأن أطلب العلم الشرعي النافع وأترك الدراسة التي طالما أحببتُها وأبدعتُ فيها.
وذلك أن المسألة أصبحت بالنسبة لي مسألة حياة أو موت...
مسألة جنة أو نار...
ولكني وللأسف ما ازددتُ إلا اضطراباً وحيرةً وأغلالاً... فانتكستُ مرةً أخرى! ثم أنه مضت السنون...
وأنا متذبذبٌ مفتون...
وقد تركتُ ذلك المعهد المأفون!
فالتحقتُ بجامعة علمية لدراسة التخصص الذي طالما عشقته وحاولت جاهداً أن أتجاوز جراحات المعهد الذي جربته. ولكن تبقى جذوة المحبة لله متقدة في الحشا ولا يزال الشوق إليه يحدوني إلى البحث عنه واستكمال المسير إليه.
فعدتُ إلى الله مرة أخرى وتبت إليه من جديد والتزمت طريقه على منهاج السلفيين، إلا أني لم أستطع أن أحل كثيراً من الإشكالات العقلية ولم أستطع كبح جماح المنازلات الفكرية وكنتُ لازلت أقع في المعاصي والذنوب والسيئات على الرغم من أني قد أقمتُ ليلي، وأخرجتُ صدقتي، وتنسكتُ - فيما أظنه تنسكاً- والتزمتُ أذكار الصباح والمساء، وأسكبتُ الدموع كل يوم.
ومع هذا...
كنتُ لا أزالُ أشعر بالخواء...
ولاأزالُ أفتقدُ لذة العبادة وكمال الخشوع وحقيقة الإحسان...
فأنا لم أكن لأرضى بمنزلةٍ دون الفردوس الأعلى...
ولا برفقةٍ سوى رفقة الحبيب المصطفى - صلوات الله وسلامه عليه-...
ولا بنظرةٍ دون نظرة الرضى من عين الرحمن الرحيم...
و الحليم الكريم...
والعفو الغفور - سبحانه وتعالى-...
فإني والله قد كنتُ أشعر أني لا أنتمي لهذا العالم الأرضي وأسعى للتحليق في العالم العلوي...
بل وقد كنتُ أشعرُ أني كنتُ يوماً هناك وأني إنما حبيسُ جسدٍ ليس بجسدي...
وأسيرُ زمانٍ ليس بزماني...
ومع هذا التطلع والشغف كنتُ لا أزالُ أخلدُ للأرض...
وما أزالُ أتبعُ الهوى...
فجعلتُ أتساءل...
كيف السبيل الى الحق من هذه حاله؟
وهل يرجى لهذا العُبيد شفاؤه؟ أو هكذا اعتقدت! فإني والله كنتُ قد أحببتُ الله ورسوله من كل قلبي ولكني كنتُ لاأزالُ لا أعرف كيف السبيل ولستُ أعلم أين الطريق...
فقد خضتُ رحلة عناء وبحث عن الحق وأيما بحث!
لطالما أردتُ أن أكون عالماً ربانياً حقاً وعارفا ً صدقاً...
لطالما أردتُ أن أكون من أهل الله وأوليائه وخاصته!
كم كنتُ أخشى أن أحرم لقاء الحبيب المصطفى - صلوات الله وسلامه عليه- في الآخرة كما حرمت لقائه في هذه الدنيا!
فأيُ شقاءٍ بعد هذا الشقاء وأي حرمان أعظم من هذا الحرمان؟! هكذا ظننت...
وبذلك اقتنعت! ولكن تبقى التساؤلات وتزداد التناقضات...
فأبحثُ بين المذاهب والمدارس من أهل سنة وأشاعرة ومعتزلة، ثم أنظر الى التشيع من اثني عشرية وجعفرية وزيدية، ثم أبحث في الباطنية من أباضية وصوفية...
أيُهم الاسلام؟
أيُهم الطريق الى الواحد الديان؟
لستُ أدري!
ثم أنظرُ بذهول الى غير المسلمين من نصارى ويهود، بل من بوذية وهندوسية وفلسفات شرقية وغربية وأظل أبحث وأقرأ وأناقش ...
فأجدُ من قد آمن ومن قد ألحد...
وأجدُ من لا يدري و من لا يزالُ يسأل...
وشوق إلى رب لم يعرنِ انتباهه!
لعله أراد أن يضلني لما علم من سوء طويتي...
ولعله فتنني بكثرة ما ألححت عليه بمحبتي...
ولعلني طرقت الباب الذي أضلني...
أو لجأت الى غير الإله الذي أبغي! لستُ أدري! فظللتُ أتساءل...
ما هي مشكلتي؟
كيف لم أوفق الى الهداية رغم طول رحلتي؟
بل كيف لا أجد أجوبةً لأسئلتي؟
أم كيف أني لا أجد جواباً رغم محبتي؟
هل أخطأت الطريق أم أخطأت القصد؟
هل أنا فاسد في ذاتي أم ضال في حقيقتي؟
فتجيبني دموعي وقروحي وسنوات غربتي...
أني أحببتُ إلاهاً لم يحبني...
وعشقتُ رباً خذلني...
وأنا كما أنا...
وحيدأً في رحلتي!
ودُمتم بكل الحب...
حكايتي
(الجزء الثاني)
الأسبابُ التي قادتني للإلحاد
(المحور الثاني- الواقع)
***
المشاهدُ أنك سواء آمنت أن مصدر الرزق هو الإله...
أو الحظ...
أو جهدك الذاتي...
فإنك تقرُ وببداهة أنه لابد لك من السعي لتحصيل الرزق.
فلا المؤمن يتواكل...
ولا غيره يتكاسل...
والكلُ في طلب الرزق متشاغل.
وكذلك...
نجدُ أنك سواء اعتقدت أن سبب شفائك هو صلوات القديس...
أو الإبر الصينية...
أو الإيحاءات الذاتية...
فإنك تقر وبصراحة وجوب التداوي وطلب العلاج.
فلا المؤمن للتعاويذ يركن...
ولا غيره بالدجل يؤمن...
والكلُ يريدُ لصحته أن تتحسن.
فالطالبُ المتدين وغير المتدين على حد سواء، يبذلون الجهد ويقرأون الدرس، ويسألون عن الإختبارات السابقة، ويتملقون المعلمين بعبارات زائفة، والبعضُ للغش يذعن، والبعضُ الآخر يتركُ القلق منه يتمكن.
وفي كل الأحوال...
ما النتيجة في الحقيقة (مع بعض الإستثناءات) إلا صدىً للجهد المبذول والدرس المقروء.
فكلنا يعتقدُ بوجوب الأخذ بالأسباب الواقعية سواء آمنت بأبعاد غيبية أو ميتافيزيقية لهذا الواقع أم لم تؤمن.
ألا وهي (الواقع).
الواقعُ باعتباره تلك المساحة من الحياة والتي تتميزُ بكونها شديدةُ الصرامة، وعظيمةُ الوقع، وحقيقيةُ التفاعل...
كما تستجيبُ له حواسنا ويدركهُ وعينا ويستوعبهُ عقلنا ويشعرُ به جسدنا، بما يستحيلُ معهُ الوهمُ أو الخطأُ.
فعندما تلمسُ النارُ يدك حقيقةً لا مجازاً...
وواقعاً لاافتراضاً...
نجدُ أن المؤمن وغير المؤمن يستجيبان بنفس الطريقة ويعايشان نفس الحقيقة...
ألا وهي الإحساسُ بالألم الناتج عن الإحتراق.
تلك المشاهداتُ الآنفة الذكر...
أثارت عندي جملةً من التساؤلات...
لو كان كلاً من " الإيمان " و " عدم الإيمان " لن " يؤثرا " أو " يغيرا " الواقع...
فلماذا أحتاجُ لأن أؤمن؟
أي وبعبارة أخرى...
إذا كان " المؤمن " في النهاية وفي واقع الأمر سيضطر لأن يقوم بنفس الإجراءات والترتيبات والإعدادات والتي يقوم بها تماماً " غير المؤمن"...
فماالحاجة للإيمان أساساً إذا كان " الإيمان " لا أثر له أو دور في التأثير والتغيير " للواقع " ؟
سيقول أحدهم متسائلاً ...
بل هنالك فرقٌ كبير!
فالمؤمن لا يرجوا " إعجازاً " خارقاً للواقع ولكنه يرجوا ثواباً من الخالق.
كذلك...
فالمؤمن يعلمُ أن هناك " حياة أخروية " و" عوالم علوية " يجبُ عليه أن يعتقد بها ويعمل لها الحساب .
أقولُ لهذا المتسائل ما يلي ...
وإن صح ما تذهبُ إليه فالإشكالُ لا يزالُ حاصلاً!
ألا وهو أن " الإيمان " لا يؤثرُ في " الحياة الدينوية " وإنما محلهُ " الحياةُ الأخروية " ...
وهذه " الحياةُ الأخروية " غير قابلة للإثبات بشكل قطعي ويقيني ( وذلك في حدود علمنا الحالي وما تمخضت عنه بعض نتائج تجارب وخبرات لمحاولة فهم حياة ما بعد الموت ) ...
وبالتالي فأنا لا أستطيعُ أن اعتمدَ على فكرة " الحياة الأخروية " لتسيير " الحياة الدنيوية " والتي في أحسن أحوالها لا تقدم أو تؤخر في قضية " الأخذ بالأسباب " الموضوعية والواقعية لا " الإيمانية أو الغيبية " .
يسألُني آخر ...
طيب...
أليس الإيمانُ يرفع المعنويات ويجعل الناس قادرين على إتيان العجائب وتخطي الصعاب والعراقيل؟
أجيبه بقولي ...
"بلى"!
ولكن أليس هذا الأثر هو أثرٌ " نفسيٌ " بالدرجة الأولى؟
فما الفرقُ بين من " يفجرُ " نفسه بإسم " الإيمان "...
وبين جنود " الكامازاكي " اليابانيين والذين قاموا " بتفجير " أنفسهم من خلال ارتطام طائراتهم - وهم فيها - في أساطيل القوات البحرية الأمريكية إبان الحرب العالمية الثانية وبإسم " الوطن" ؟
في الحالتين هناك " تفجيرٌ " ذاتي للذات ...
في الحالتين هناك " دافعٌ " ذاتي بالسبب أو القضية والتي من أجلها تم التفجير ... وفي كل الأحوال...
فإن الحقيقة هي أن " التفجير " قد حصل بغض النظر عن " الدافع " والذي كان " نفسياً " و " إيحائياً " بالدرجة الأولى ...
فهناك تجربةً طريفةً ومشهورةً في أدبيات " علم النفس الإكلينيكي " والمتعلقة بمفهوم " الإيحاء الذاتي " ...
حيثُ قام مجموعةٌ من الأطباء بتقسيم عينةٍ من المرضى إلى قسمين اثنين بحيث أنهم استمروا في إعطاء القسم الأول نفس الدواء.
في حين أنهم أعطوا القسم الثاني حبة " سكر " تشبه الدواء الأصلي طعماً وشكلاً ولكنها تخلوا من الأثر الكيميائي للدواء الأصلي وذلك بدون أن يعلم المرضى بهذه التجربة...
ثم أنهم تابعوا التقدم في نتائج التحسن والشفاء لكلا القسمين.
فمالذي وجده أولئك الأطباء؟
لقد وجدوا أن هناك تحسناً " متقارباً " بين كلا القسمين...
سواء الذين استمروا على أخذ الدواء الحقيقي أوالذين أخذوا الدواء " السكر"!
عندها استنتج الأطباء أن الإعتقاد الجازم لدى المريض بأن حبة الدواء هذه ستساعد على الشفاء - وإن لم يعلم المريض أنها ليست سوى حبة " سكر " تشبه الحبة الأصلية - سوف تقوم بالفعل بإحداث التغير الكيميائي والعصبي والهرموني المطلوب ( مع التأكيد على أنه هناك استثناءات لهذه الدراسة وكذلك مع الوضع في الإعتبار الأساس الفسيولوجي والبيولوجي لجسم الإنسان وتركيبه العصبي المعقد) .
وهذا ما بات يعرف " بأثرالبالاسيبو" -Placebo Effect للإشارة إلى العامل الذاتي في الإيحاء ...
ثم أجدني أتسائل ومن جديد...
لماذا يحتاجُ من يؤمنُ بأن رزقه مقدر...
وأن سعيهُ لا يقدمُ شيئاً ولا يؤخر...
إلى أن يعمل ويطمع ويطمح تماماً كمن لا يؤمن؟
لماذا لا يكتفي المؤمنُ الذي يعاني من مرض عضال بصلوات راهبه؟
أو بركات قسيسه؟
أو دعوات شيخه؟
أو تعاويذ كاهنه؟
بل لماذا لا يعتمد على الشافي وحده؟
أو يلجأ إلى الكتاب المقدس عنده؟
بل لماذا يبحثُ عن علاجات ودواءات حاله في ذلك كحال غير المؤمن؟
لماذا لا يحفظُ الدرس من ذكر أدعيته المباركة؟
أو تبرك بقساوسته ورهبانه وصلواتهم المقدسة؟
أو مارس التأمل الروحي في جبال التبت الشاهقة؟
بل لماذا يحضرُ الدرس ابتداءً ولا يكتفي بالكشوفات الإلاهية الباهرة؟
أو الرؤى والمنامات الساحرة؟
بل لما يبذلُ الجهد ويواصلُ الكد وقد آمن أن النتيجة قد تقررت في كتاب وأن عين الحق ترعاه؟
لماذا يُقتلُ المؤمنُ وغيرُ المؤمن على حد سواء؟
أم لماذا يُسرقُ المؤمنُ وغيرُ المؤمن على حد سواء؟
بل لماذا يفشلُ المؤمنُ وغيرُ المؤمن على حد سواء؟
إن كان المؤمنُ بالماورائيات وغيرُ المؤمن بها يخضعان لسنن الواقع ويعالجان مرارته...
فما الفرقُ بينهما؟
وما العلاقةُ بين الإيمان من عدمه وبين الواقع إن كان الجميعُ في النهاية له خاضع؟
فإن كنتُ آمنتُ بأن رزقي في السماء...
وأن الأمر قضاء...
فلما الكدحُ؟
فلما العناء؟
وإن كنتُ قد علمتُ أن إيماني يشفيني...
فلما العلاج؟
وإن كنتُ آمنتُ أن معتقدي يحميني...
فلما أبحثُ عن الأمان؟
ودُمتم بكل الحب...
"فرنسيس"
وللمزيد من التواصل فإنه يسعدني أن أستقبل مراسلاتكم على البريد الإليكتروني التالي:
francisbacon@hotmail.com
أيُهم حقيقة الايمان؟ وأنا أقفُ وحيداً بحب لم يتسنَ لي إكماله...وسلكتُ طريقاً أضلني...فالمؤمن وغير المؤمن متفقان على حقيقة واحدة يعايشانها ويعترفان بها...
0 التعليقات:
إرسال تعليق